صعق كثير منا "بالتطرف العلماني" في الفيديو المسرب من اجتماع ضم حلمي النمنم وتهاني الجبالي.. وبالجملة الأكثر استفزازاً أن "الشعب المصري علماني بطبعه"!!
حين خاض المسيري في بحث مطول -مطول جداً في الواقع- عن العلمانية، ووضع نموذجه التفسيري لما أسماه العلمانية الشاملة.. أو العلمانية الكاسحة، كما أسماها، حين خاض في الفضاء الفلسفي للعلمنة لم يضع تعريفاً واضحاً محدداً للعلمانية، ولكنه أخذ يسأل أسئلة المرجعية، وأسئلة عن مركز المنظومة -إن وُجد-، وموقع هذا المركز.
لست بصدد شرح ما كتبه المسيري بقدر ما أرغب في إسقاطه على حادث جلل كمذبحة رابعة، وما سبقها وما تلاها من مذابح بحق مؤيدي الشرعية. وكذلك ما سبق الأزمة، من دماء سالت في عهد محمد مرسي.
سأل المسيري سؤال المرجعية، وتحدث عن الصراع بين مرجعيتين: المرجعية الكامنة والمرجعية المتجاوزة.. إما أن تكون مرجعية المنظومة بداخل المنظومة نفسها "كامنة" فيها، أو أن تكون المرجعية خارجة عنها "متجاوزة لها"..
مثال للتبسيط: في المعارك الانتخابية، حين تكون المرجعية "انتخابية" بحتة، سيكون الهدف هو حشد أكبر كم من الأصوات في كل الدوائر أو في دوائر بعينها .. أيا كان الحكم الأخلاقي على أسلوب الحشد فإن المنفعة المتحققة والمترتبة على السلوك هي الأهم، لأنها تتسق مع المرجعية الانتخابية البحتة التي اتخذها المتنافسون.. فلا يسأل أحد إن كانت الوعود الانتخابية قابلة للتحقق أم لا، ولا عن أخلاقية خداع الجماهير، ولا عن الرشا الانتخابية،.. إلخ، وتصبح هذه الأسئلة غير ذات موضوع أصلاً. أما إن كانت المرجعية في المعركة الانتخابية مرجعية خارجة عن منظومة الانتخابات نفسها، مرجعية أخلاقية مثلاً، فإن في كل خطوة وكل طريقة في تجميع الأصوات، سيكون السؤال الأخلاقي مطروحاً دائماً.. ولن يكون الفوز -والفوز فقط- هو المعيار الوحيد الأوحد للنجاح في العملية الانتخابية.. بل إن الهزيمة "المادية" أمام خصم "غير أخلاقي" ستكون بمثابة انتصاراً للمرجعية وانتصاراً للمبادئ.
إذاً عد المسيري غياب السؤال الأخلاقي المتجاوز مظهراً علمانياً صرفاً .. وأن معيار المنفعة المجردة من أية منظومة قيمية تجلي لعلمنة شاملة.
حين يسفك دم المئات، -وفي ظل التعتيم وكتم أي صوت إعلامي مناهض لبلطجة العسكر- قد يكون الرقم أضعاف ما أعلنته وزارة الصحة.. حين يسفك الدم وتجد أن الكثيرين -من جميع الأطراف- لم يكترثوا بجريمة كهذه على المستوى الإنساني أو الأخلاقي .. ويكون رد الفعل إما التجاهل أو التبرير .. ومن اهتم لا تجد منه إلا الشماتة أو التنظير أو محاولة استغلال الأمر سياسياً بصورة ما!
بل حين يصل الأمر إلى النزاع حول ما إذا كان الأمر جريمة من أساسه.. فضلاً عن تبريرها أو التسامح معها.. تجد سؤال المرجعية يفرض نفسه بوضوح -أيضاً على جميع الأطراف: هل ثمة مرجعية أخلاقية لجموع مباركي القتل؟ أم أن الأمر محض مصالح ومفاسد مجردة من القيمة؟ بل هل هناك بالأساس منظومة قيم تحكم هذا المجتمع؟
أي أن الصيغة الماثلة امامنا: "لا ضير من إعدام خصمي في الشوارع طالما سيحقق هذا منفعة وفق المعايير الداروينية للصراع السياسي.. ولا دخل للأخلاقية في هذا!"
لا ضير من التنكيل بالمخالف طالما سيخفيه من وجهي .. لا ضير في العنف الأهلي طالما سيوجه الصراع وجهة ما .. لا ضير من سجن الفكرة طالما لا أقدر على مجابهتها ..
المرجعية الإسلامية -كفلسفة- تطرح نفسها كمرجعية متجاوزة لكافة المنظومات ومهيمنة عليها، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية... إلخ .. والثقافة الإسلامية تطرح رؤية الإنسان لنفسه وللكون، بأن مركز الكون خارج عنه متجاوزاً له ... ولا ثمة مركزية لعقل الإنسان -على أهميته بطبيعة الحال-، ولا للطبيعة/المادة -على أهميتها لعمارة الأرض- .. بل إن المركز رباني أخلاقي متجاوز لهذا الإنسان ومتجاوز لهذا الكون خارجاً عنه وليس كامناً متضمناً فيه.
وبالتالي، يصبح حساب المواقف والمصالح بشكل يسقط السؤال الأخلاقي هو إهدار صريح لأسس الثقافة الإسلامية التي كان الكثيرون يعتقدون عمق جذورها في المجتمع المصري!!.. واتضح أن الأمر محض مصالح بلا أي بُعد أخلاقي متجاوز!
[تقول الأسطورة: الشعب المصري متدين بطبعه]
والآن نستحضر ما قاله النمنم وتهاني الجبالي ..
نجد ان ما قالوه قد يكون ليس سوى الحقيقة التي نرفض الاعتراف بها .. بل ونخدع أنفسنا بالترويج للأسطورة بأننا متدينون بالفطرة!! .. لا يا راجل!